بقلم: د. شيماء وجيه، خبيرة اقتصادية و مصرفية
في لحظة مفصلية من مسار الإصلاح النقدي والمالي، أعلن البنك المركزي المصري عن رفع أسعار الفائدة على مبادرات التمويل العقاري لمحدودي ومتوسطي الدخل، في خطوة تعكس تحولا استراتيجيا نحو بناء منظومة تمويل أكثر كفاءة واستدامة ، فالقرار الذي رفع اسعار الفائدة من 3% إلى 8% تناقصي لمحدودي الدخل، ومن 8% إلى 12% لمتوسطي الدخل، لا يعد مجرد تعديل رقمي في معدلات التمويل، بل يمثل إعادة تقييم شاملة للسياسات التمويلية وفق معطيات اقتصادية أكثر واقعية تعكس التغيرات الجوهرية في بيئة الفائدة والتضخم والإنفاق العام و تأتي هذه الخطوة في وقت يشهد فيه الاقتصاد المصري ضغوطا تضخمية متزايدة وتحديات في إدارة السيولة و هو ما جعل الحاجة إلى ضبط المبادرات التمويلية ضرورة لا خيارا فمبادرات التمويل العقاري كانت لعقود أحد أهم أدوات العدالة الاجتماعية لكنها تحولت مع مرور الوقت إلى عبء مالي ثقيل على الموازنة العامة للدولة خاصة مع ارتفاع تكلفة الأموال داخل الجهاز المصرفي وتراجع القيمة الحقيقية للجنيه ولذلك فإن قرار البنك المركزي يهدف إلى تحقيق التوازن بين الكفاءة المالية والبعد الاجتماعي عبر مواءمة الفائدة مع تكلفة التمويل الفعلية دون إلغاء الدور التنموي للمبادرات
إن رفع سعر الفائدة في هذا التوقيت لا ينفصل عن توجهات السياسة النقدية الأوسع والتي تسعى إلى كبح جماح التضخم وتعزيز استقرار القطاع المصرفي فالبنك المركزي يوازن بين هدفين متعارضين ظاهريًا و هما حماية المواطن محدود الدخل من الضغوط التمويلية و في ذات الوقت ضمان استدامة الموارد المالية التي تمول تلك المبادرات ومن ثم فإن القرار يعكس نضجا في إدارة السياسة النقدية، إذ لم يعد دعم التمويل العقاري قائما على الدعم غير المحدود، بل على نموذج دعم ذكي قابل للقياس والمراجعة، يرتبط بقدرة الاقتصاد على التحمل ويخضع لتقييم دوري في ضوء المتغيرات المالية الكلية.
اما علي مستوى السوق العقاري، يشكل القرار نقطة تحول ستعيد رسم ملامح الطلب والسعر والتخطيط المالي للمطورين فالفائدة الجديدة ستحد من المبالغة في الطلب المدفوع بالتمويل الرخيص وتفرض حالة من الانضباط السعري تعيد الاتزان إلى سوق شهد تضخما في الأسعار خلال الأعوام الأخيرة ، كما أنها ستدفع الشركات العقارية إلى ابتكار حلول تمويلية جديدة مثل تقسيط الوحدات عبر أدوات مالية مستحدثة أو شراكات مع البنوك لضمان استمرار حركة المبيعات رغم تغير ظروف الاقتراض.
لكن لا يمكن في نفس الوقت إغفال البعد الاجتماعي للقرار إذ سيشعر المواطن محدود الدخل بزيادة في الأعباء الشهرية على أقساط التمويل وهو ما يتطلب من الدولة تفعيل برامج دعم موازية مثل منح نقدية أو تسهيلات أو نظم تمويلية متدرجة الفائدة ، فالعدالة الاجتماعية في هذه المرحلة لا تتحقق بتجميد الفائدة،بل بتوجيه الدعم إلى من يستحقه فعليا مع الحفاظ على استدامة المنظومة ككل.
اقتصاديا، يتوقع أن يسهم القرار في تحسين كفاءة تخصيص الموارد داخل الجهاز المصرفي، ويعزز من قدرته على تمويل القطاعات الإنتاجية دون ضغوط ، كما أنه ينسجم مع توجهات الحكومة نحو تحقيق التوازن المالي وتقليص الدعم غير المباشر بما يعزز مصداقية السياسة النقدية أمام المؤسسات الدولية والمستثمرين
وفي المقابل قد تشهد السوق العقارية فترة هدوء مؤقتة يعقبها استقرار طويل المدى مع اتجاه الأسعار نحو التوازن الطبيعي بعيدا عن الفقاعات السعرية
إن رفع سعر الفائدة على مبادرات التمويل العقاري ليس قرارا ضد المواطن بل هو خطوة نحو ترسيخ اقتصاد أكثر واقعية يعيد ترتيب أولويات الدعم ويحافظ على قوة البنوك واستقرار السوق ، فالاقتصاد الذي يواجه ضغوطا تضخمية واحتياجات تمويلية ضخمة لا يمكن أن يستمر في تقديم تمويلات مدعومة بفجوة تمويلية متزايدة دون أن يعرض استقراره للخطر.
إنها مرحلة انتقالية تتطلب وعيا مجتمعيا وسياسيا ، ورؤية اقتصادية تدرك أن العدالة لا تتحقق بالمنح المؤقتة بل ببناء منظومة تمويل مستدامة تخدم الجميع على المدى الطويل.
ويبدو واضحا أن البنك المركزي المصري يمضي بثقة نحو تحقيق معادلة دقيقة بين الانضباط النقدي والتوازن الاجتماعي مؤكدًا أن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي لا يقوم على قرارات سهلة بل على قرارات ضرورية تعيد هيكلة منظومة التمويل بما يتوافق مع الواقع المحلي والعالمي.
إنها رسالة مفادها أن البنك المركزي لا يواكب الأحداث فحسب بل يصوغ مستقبل التمويل العقاري المصري عبر سياسات تعكس فهما عميقا لمفهوم التنمية المستدامة، وتضع الاقتصاد الوطني على مسار أكثر استقرارا وكفاءة.








